فلسفة الانقلاب العسكري

WebCraker

العبد الفقير إلى الله
طاقم الإدارة
9 مارس 2008
5,645
50
48
Egypt
support-ar.com
في عام 1961، دخل ضابط كبير إلى ثكنة عسكرية خارج دمشق ففصل الضباط المصريين عن السوريين. ثم تكلم مع السوريين فقال: لقد أعددنا العدة لانقلاب عسكري بغية إصلاح الأوضاع؟ فقام ضابط شاب فقال: ولكن هذا معناه نهاية الوحدة؟ قال الجنرال: أقسم لك على القرآن أننا لا نريد المساس بالوحدة ولكن هدفنا هو القضاء على الفساد والمخابرات. قال الضابط الصغير: ولكن نزولكم يعني انقلاباً عسكرياً لا رجعة فيه؟ قال: لا.. إنما هي حركة إصلاحية؟ قرر الضابط الشاب (عدم الطاعة) فقال: لن أنزل معكم وافعلوا بي ما تريدون. وكان معنى هذا تمردا على الأوامر العسكرية. فالانقلابات تحدث بالأوامر العسكرية. فما كان من الجنرال إلا أن عزل هذا الشاب (المتهور) مع بقية الضباط المصريين المحتجزين، وسارت القطعات العسكرية باتجاه دمشق وقامت بما عرف بحركة الانفصال. فهذه القصة تحمل مفتاح نجاح أو إخفاق الانقلابات العسكرية.

وفي كتاب (تذكرة ذهاب وعودة من الجحيم) للضابط (محمد الرايس) يكشف هذا السر مرة أخرى حينما يطلب منه (أمحمد عبابو) في حادث الانقلاب المغربي إطلاق النار على أحد المحتجزين وإلا قتله. يقول الكاتب إنه جبن ونفذ الأمر فقتل بريئاً ولكنه شعر أنه فقد شرفه.

وفي موريتانيا قام (صالح ولد حنانه) في يونيو 2003، بانقلاب عسكري على (معاوية ولد الطايع) الذي قلب من قبله بانقلاب. ولكنه لم ينجح فتحول إلى خائن يستحق الإعدام. وخرجت الجماهير طائعةً لولد الطايع وهي تهتف بالدم بالروح نفديك يا معاوية؟ ولو نجح (صالح) لاعتبر (معاوية) خائناً يستحق الإعدام وأصبح (بن حنانه) مركزاً للحنان ولخرجت الجماهير تهتف بالدم بالروح نفديك يا صالح إلى الأبد؟

وواقع من هذا النوع يكتب مصير أحدهما بالخيانة والإعدام بفارق النجاح والفشل في انقلاب عسكري لا يوصف إلا بالجنون؟ ولكن يبدو أن المجانين هم الذين يتحكمون بمصير العقلاء. وأن الوطن العربي انقلب مع الانقلابات إلى مصح أمراض عقلية يقودها عسكريون وأشباه العسكريين. ومن يقتل شخصاً يوصف بأنه مجرم مطلوب للعدالة، ولكن من يقوم بالانقلابات ويقتل الآلاف يوصف بأنه القائد الأمين. وحسب الدراسة التي تقدمت بها (كاثرين كوكس) في كتابها (السمات العقلية المبكرة لثلاثمائة من العباقرة) فإن «أقل القادة ذكاءً هم العسكريون».

ومنذ فترة بطلت بدعة الانقلابات حتى أحيا ذكراها الموريتانيون مثل مريض مصاب بداء الصرع لم يتعرض لنوبة التشنجات ويسقط إلى الأرض فجاءته على حين غفلة حين غفل عن تناول دواء الايبانوتين.
وكما هتفت الجماهير في عام 1958، للوحدة بين مصر وسوريا وحياة عبد الناصر، فقد فعلت نفس الشيء فخرجت تهتف للانفصال والخلاص من عبد الناصر. ثم جرت محاولة انقلابية لإعادة الوحدة فهتفت الجماهير لعبد الناصر والانقلابيين فلم يولد إلا الانفصال. وبين جناحي حزب البعث العراقي والسوري انفجرت عداوة مريرة ختمت على جوازات السفر بعدم السماح للمواطن أن يزور كل العالم إلا العدو القريب. وما حدث بعد هذا كان أدهى وأمر، فلم ترجع (الوحدة) ولم توجد حرية، ولم تتقدم الأوضاع إلا باتجاه المزيد من التردي. وفي النهاية جاءت أمريكا بخيلها ورجالها إلى المنطقة.

وكما احتفل العراقيون بسقوط صنم صدام فيمكن لهذه الجماهير أن ترجع فيما لو بعث صدام من الأموات فتهتف بالدم بالروح نفديك يا صدام. وهي مؤشر أن شيئاً لم يتغير كما طلب بنو إسرائيل عبادة الصنم بعد الخروج من عبادة الأصنام في مصر، فقالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون.

واليوم يستعطف المثقفون العرب حكوماتهم بخمسة مطالب تنص على الإفراج عن معتقلي الرأي والضمير وإلغاء حالة الطوارئ وتقليص صلاحية الأجهزة الأمنية وإطلاق حرية الرأي والتعبير والاجتماع والانتقال والسفر والعمل النقابي والسياسي وجميع الحقوق المنصوص عليها في الدستور، وأخيرا عقد مؤتمر وطني تحضره كافة الشخصيات والقوى السياسية لبحث سبل إخراج البلاد من أزمتها. ولكن سنة التاريخ تجري ليس وفق الطلبات بل القوانين، وعندما نطلب من المريض في العناية المشددة أن يمارس لعب الجمباز والمسابقة في الماراتون الدولي نضحك على أنفسنا. والأطباء يميلون إلى التشخيص الدقيق والمعالجة المكثفة المنوعة اكثر من التمنيات.

وجرت العادة أن الطغيان لا ينحسر بالتمنيات أو الطلبات بل يزول بقانونه الخاص من ضغط المعارضة. فهذه قوانين وجودية مثل قوانين الكهرباء في الفيزياء.

ولكن السؤال لماذا تصفق الجماهير لكل عتل زنيم يعتلي ظهرها وتهتف بالروح بالدم نفديك؟

يمتاز مرض الانقلاب بثلاث صفات: أولاً أنه ليس مرضاً عربياً بل هو مشكلة إنسانية تتسم بالجنون وعمل العضلات. وحينما تنام الأمة ينشط الانقلابيون في الظلام مثل كل الحشرات الليلية فيقفزون إلى السلطة بدعوى الإصلاح إلا أنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون.

والأمر الثاني أن هناك فرقا بين (الانقلاب) و(الثورة) فالأول عسكري تغتال به إرادة الأمة والثاني شعبي تولد فيه إرادة الأمة. ويذكر حسن عشماوي في مذكراته رأيا لم يتحمس له أحد في مقاومة الانقلاب العسكري في مصر، بأن تزحف الجماهير على القصر الجمهوري فلا ترجع إلا بتراجع مجموعة الانقلاب وهذا الذي حدث مع الثورة الإيرانية. ولكن الكل يفكر بنفس الطريقة وهي إزالة (القوة) بـ(القوة) وما يحصل أن (القوة) تستبدل بـ(القوة) فلا تتغير الأوضاع إلا نكسا والأمور إلا تدهورا.

والأمر الأخير أن الانقلاب يجعل مصائر البلد في يد مافيا عسكرية تغتصب الأمة والدولة وتبني وضعها بالذراع العسكرية والأحكام العرفية وأجهزة الأمن. فتموت المعارضة وتقتل الأمة قتلا. وبتعبير مجلة در شبيجل الألمانية: إن المرض ليس في وجود مافيات داخل الدولة بل تحول كل الدولة إلى مافيا.

إن طبيعة الانقلاب عسكرية ولا تقع في العادة إلا في الجيوش حيث يتم استلاب الإنسان. فالقطعة العسكرية مركبة على إعدام الأبعاد الثلاثية للإنسان من (التفكير والاستقلالية والحرية الفردية)، ومع زوال الأبعاد الثلاثية لا يبقى بعدها إنسان ويتحول إلى نقطة رياضية. ويعمد الجيش إلى اختصار مجموع إرادات الجنود بإرادة الضابط في كتل لحمية منضدة جاهزة للضرب على الأوامر والإشارة. ثم تدور دورة الاختزال اللاإنسانية مرة أخرى فتختصر إرادات الضباط بإرادة الجنرال. وفي النهاية لا تبقى إلا إرادة الطاغية الذي تذوب في إرادته كل الإرادات. وهو الذي يفسر حدوث الانقلابات أو استمرار أوضاع الانقلابات في أماكن شتى ومنه العالم العربي.

وفي كتاب (سيكولوجية القطيع) لجوستاف لوبون، ينتبه إلى أن الفرد يخسر عقله حينما يتصرف كفرد في مجموع. وبقدر ما تنمو حاسة النقد عند الأفراد والاستقلالية والمعارضة بقدر غيابها في جو القطيع. وهذا التحول يشبه الجسم حينما يفقد الدماغ ويخضع لارتكاسات النخاع الشوكي. وفي جو مريض من هذا النوع يتفشى التعصب وتنمو القسوة ويقفز إلى السلطة الأشقياء الأوغاد.

وفي الحرب العالمية الأولى رأى الجنود الفرنسيون عبثية حرب الخنادق فتمردوا فعالج الجنرالات الموقف بالمحاكم الميدانية والإعدامات. كما جاء ذكر ذلك في قصة وداعاً أيها السلاح للكاتب الأمريكي آرنست همنغواي.

قصص الانقلابات تذكر بقصة الديك المغرور من كتاب الخرافات لتولستوي. ففي يوم تشاجر ديكان على مزبلة وكان أحدهما أقوى من الآخر فتغلب عليه وطرده، فتجمعت الدجاجات كلها حول الديك وهي تهتف بالدم بالروح نفديك يا ديكنا الغالي. وأراد الديك أن تنشر أخبار قوته وأمجاده في الساحات المجاورة، فطار إلى قمة مخزن الغلال وأخذ يصفق جناحيه ويصيح بصوت عال: انظروا إلى إنجازاتي الثورية أنا الديك المنتصر وليست لأي ديك آخر في العالم قوة كقوتي! ولم يكد الديك ينتهي حتى انقض عليه نسر قتله وحمله إلى عشه طعاماً لفراخه.