أولاً : بداية الحرب ،وتوغل القوات العراقية في العمق الإيراني .
ثانياً : إيران تبحث عن السلاح .
ثالثاً : إسرائيل تضرب المفاعل النووي العراقي .
رابعاً : إيران تستعيد قدراتها ،وتشن الهجوم المعاكس .
خامساً : استمرار الحرب ،وإيران تستكمل تحرير أراضيها .
سادساً : تحول ميزان القوى لصالح إيران ،واحتلال الفاو ،وجزر مجنون .
سابعاً : النظام العراقي يسعى للتسلح بأسلحة الدمار الشامل .
ثامناً : حرب الناقلات ،وتأثيرها على إمدادات النفط .
تاسعاً : معارك العام الأخير للحرب .
عاشراً : النظام الصدامي يهاجم مدينة حلبجة بالأسلحة الكيماوية .
أحد عشر: النظام العراقي يكثف حرب الصواريخ ،لتركيع إيران ،ونهاية الحرب.
اثنا عشر : النظام الصدامي يهاجم الشعب الكردي [ حملة الأنفال ] .
أولاً:بداية الحرب ،وتوغل القوات العراقية في العمق الإيراني:
في صباح الثاني والعشرين من أيلول 1980 ،قامت على حين غرة 154 طائرة حربية عراقية بهجوم جوي كاسح على مطارات إيران ،والمراكز الحيوية فيها ،ثم أعقبتها 100 طائرة أخرى في ضربة ثانية لإكمال ضرب المطارات والطائرات الحربية الإيرانية ،وكانت الطائرات تغير موجة إثر موجة ،وفي الوقت نفسه زحفت الدبابات والمدرعات العراقية نحو الحدود الإيرانية على جبهتين.
1 ـ الجبهة الأولى في المنطقة الوسطى من الحدود بين البلدين ،باتجاه [ قصر شيرين ] ، نظراً لقرب هذه المنطقة من قلب العراق ،لإبعاد أي خطر محتمل لتقدم القوات الإيرانية نحو ديالى ،ثم بغداد ،وقد استطاعت القوات العراقية الغازية احتلال[ قصر شيرين ].
2 ـ الجبهة الثانية في الجنوب ،نحو منطقة [ خوزستان ] الغنية بالنفط ،وذات الأهمية الإستراتيجية الكبرى ،حيث تطل على أعلى الخليج .
وفي خلال بضعة أسابيع من الهجوم المتواصل ،استطاعت القوات العراقية ،التي كانت قد استعدت للحرب ،من السيطرة على منطقة [ خوزستان ] بكاملها ،واحتلت مدينة [ خرم شهر ] ،وقامت بالتفاف حول مدينة [ عبدان ] النفطية ،وطوقتها .
وعلى الجانب الإيراني ،فقد قامت الطائرات الإيرانية بالرد على الهجمات العراقية ، وقصفت العاصمة بغداد ، وعدد من المدن الأخرى ، الا أن تأثير القوة الجوية الإيرانية لم يكن على درجة من الفعالية ،وخصوصاً وأن النظام العراقي كان قد تهيأ للحرب قبل نشوبها ، حيث تم نصب المضادات الأرضية فوق أسطح العمارات في كل أنحاء العاصمة والمدن الأخرى ،وتم كذلك نصب العديد من بطاريات الصواريخ المضادة للطائرات حول بغداد . وهكذا فقد فقدت إيران أعداد كبيرة من طائراتها خلال هجومها المعاكس على العراق ،كما أن القوة الجوية الإيرانية كانت قد فقدت الكثير من كوادرها العسكرية المدربة بعد قيام الثورة ،مما اضعف قدرات سلاحها الجوي ، ولم يمضِ وقت طويل حتى أصبح للسلاح الجوي العراقي السيطرة المطلقة في سماء البلدين .
وفي الوقت الذي كانت إيران محاصرة من قبل الغرب ،فيما يخص تجهيزها بالأسلحة ، كانت الأسلحة تنهال على العراق من كل جانب ، كما أوعزت الولايات المتحدة إلى الرئيس المصري أنور السادات ببيع جميع الأسلحة المصرية من صنع سوفيتي إلى العراق ،وتم فتح قناة الاتصال بين البلدين عن طريق سلطنة عمان ،حيث كانت العلاقات بين البلدين مقطوعة منذُ أن ذهب السادات إلى إسرائيل .وقام السادات بالدور الموكول له ،وأخذت الأسلحة المصرية تُنقل إلى العراق عن طريق الأردن والسعودية خلال عام 1981 . كما بدأت خطوط الإنتاج في المصانع الحربية المصرية تنتج وتصدر للعراق المعدات والذخيرة ،والمدافع عيار 122ملم طيلة سنوات الحرب .
لقد كانت تلك العملية فرصة كبيرة للولايات المتحدة لإنعاش سوق السلاح الأمريكي ،حيث سعت لأن تتخلص مصر من السلاح السوفيتي ،وتستعيض عنه بالسلاح الأمريكي ،فقد بلغ قيمة ما باعه السادات من سلاح للعراق يتجاوز ألف مليون دولار خلال عام واحد ،وكانت أسعار الأسلحة المباعة تتجاوز أحياناً أسعارها الحقيقية ،وكان صدام حسين مرغماً على قبولها .(1)
وفي الوقت نفسه أشترى السادات من الأسلحة الأمريكية ،ما معدله [ ألف مليون دولار ] سنوياً ، ولمدة خمس سنوات ، التي تلت توقيعه على اتفاقية [ كامب ديفيد ] ،وبلغ قيمة ما اشترته مصر من الأسلحة الأمريكية ،أكثر مما اشترته من الاتحاد السوفيتي خلال السنين السابقة ،بعشرة أضعاف .
وفي حين لم تدفع مصر أكثر من ثلث ثمن الأسلحة السوفيتية ،فإنها دفعت ،ومع الفوائد ثمن كل السلاح الأمريكي ،ولم تعفى إلا بمقدار 7 مليارات دولار ،وكانت كرشوة من قبل الولايات المتحدة لمصر ، لقاء مشاركتها في الحرب ضد العراق في حرب الخليج الثانية عام 1991 ، وتقديراً لخدماتها في تحقيق الغطاء العربي لتلك الحرب الإمبريالية ضد العراق وشعبه ،بحجة تحرير الكويت ،ولقاء السكوت على حرب التجويع المستمرة منذُ 2 آب 1990،وحتى يومنا هذا، ضد الشعب العراقي المنكوب .
أما الاتحاد السوفيتي ، فقد بدأ بتوريد الأسلحة إلى العراق ،بعد توقف لفترة من الزمن ، وبدأت الأسلحة تنهال عليه عام 1981 ،حيث وصل إلى العراق 400 دبابة طراز T55 و250 دبابة طراز T 72)) كما تم عقد صفقة أخرى تناولت طائرات [ميك ] [وسوخوي ] و [ توبوليف ] ،بالإضافة إلى الصواريخ .
كما عقد حكام العراق صفقة أخرى مع البرازيل ،بمليارات الدولارات ،لشراء الدبابات ،والمدرعات ،وأسلحة أخرى ،وجرى ذلك العقد بضمانة سعودية ، واستمرت العلاقات التسليحية مع البرازيل حتى نهاية الحرب عام 1988.
وهكذا أستمر تفوق الجيش العراقي خلال العام 1981 ،حيث تمكن من احتلال مناطق واسعة من القاطع الأوسط منها [سربيل زهاب ]و[الشوش]و[قصر شيرين] وغيرها من المناطق الأخرى .
كما تقدمت القوات العراقية في القاطع الجنوبي ،في العمق الإيراني ،عابرة نهر الطاهري ،وكان ذلك الاندفاع أكبر خطأ أرتكبه الجيش العراقي ،بأمر من صدام حسين !!!، حيث أصبح في وضع يمكن القوات الإيرانية من الالتفاف حوله ،وتطويقه ،رغم معارضة القادة العسكريين لتلك الخطوة الانتحارية التي دفع الجيش العراقي لها ثمناً باهضاً من أرواح جنوده ،ومن الأسلحة والمعدات التي تركها الجيش ،بعد عملية التطويق الإيرانية ،والهجوم المعاكس الذي شنه الجيش الإيراني في تموز من عام 1982 ، والذي استطاع من خلاله إلحاق هزيمة منكرة بالجيش العراقي ،واستطاع تحرير أراضيه ومدنه في منطقة خوزستان ،وطرد القوات العراقية خارج الحدود .
ثانياً : إيران تبحث عن السلاح :
أحدث تقدم الجيش العراقي في العمق الإيراني قلقاً كبيراً لدى القيادة الإيرانية ،التي بدأت تعد العدة لتعبئة الجيش بكل ما تستطيع من الأسلحة والمعدات ،وقامت عناصر من الحكومة الإيرانية بالبحث عن مصادر للسلاح ،حيث كان السلاح الإيراني كله أمريكياً ،وكانت الولايات المتحدة قد أوقفت توريد الأسلحة إلى إيران منذُ الإطاحة بالشاه ،وقيام الحرس الثوري الإيراني باحتلال السفارة الأمريكية واحتجاز أعضائها كرهائن ،وتمكنت تلك العناصر ،عن طريق بعض الوسطاء من تجار الأسلحة ،من الاتصال بإسرائيل ، عن طريق أثنين من مساعدي رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك ، وهما [ أودولف سكويمر ] و [ يلكوف نامرودي ]، بالاشتراك مع تاجر الأسلحة السعودي [ عدنان خاشقجي ] الذي قام بدور الوسيط ؟ (2)
وجدت إسرائيل ضالتها في تقديم الأسلحة إلى إيران،ذلك لأن العراق تعتبره إسرائيل عدواً لها ،وإن إضعافه ،وإنهاك جيشه في حربه مع إيران يحقق أهداف إسرائيل .
ولم يكن تصرف إسرائيل هذا ،بمعزل عن الولايات المتحدة ورضاها ومباركتها إن لم تكن هي المرتبة لتلك الصفقات ،بعد أن وجدت الولايات المتحدة أن الوضع العسكري في جبهات القتال قد أصبح لصالح العراق ،ورغبة منها في إطالة أمد الحرب أطول مدة ممكنة فقد أصبح من الضروري إمداد إيران بالسلاح لمقاومة التوغل العراقي في عمق الأراضي الإيرانية ،وخلق نوع من توازن القوى بين الطرفين .
وفي آذار من عام 1981 أسقطت قوات الدفاع الجوي السوفيتية طائرة نقل دخلت المجال الجوي السوفيتي قرب الحدود التركية ،وتبين بعد سقوطها أنها كانت تحمل أسلحة ومعدات إسرائيلية إلى إيران . وعلى الأثر تم عزل وزير الدفاع الإيراني [ عمر فاخوري ] ،بعد أن شاع خبر الأسلحة الإسرائيلية في أرجاء العالم .
إلا أن ذلك الإجراء لم يكن سوى تغطية للفضيحة ،وظهر أن وراء تلك الحرب مصالح دولية كبرى تريد إدامة الحرب ،وإذكاء لهيبها ،وبالفعل تكشفت بعد ذلك في عام 1986 ،فضيحة أخرى هي ما سمي [ إيران ـ كونترا ]على عهد الرئيس الأمريكي [ رونالد ريكان ] الذي أضطر إلى تشكيل لجنة تحقيقية برئاسة السناتور [جون تاور ] وعضوية السناتور [ ادموند موسكي ] ومستشار للأمن القومي [برنت سكوكروفت ] ، وذلك في 26 شباط 19987 ،وقد تبين من ذلك التحقيق أن مجلس الأمن القومي الأمريكي كان قد عقد اجتماعاً عام 1983 ،برئاسة ريكان نفسه لبحث السياسة الأمريكية تجاه إيران ،وموضوع الحرب العراقية الإيرانية ،وقد وجد مجلس الأمن القومي الأمريكي أن استمرار لهيب الحرب يتطلب تزويد إيران بالسلاح وقطع الغيار والمعدات ، من قبل الولايات المتحدة وشركائها ،وبشكل خاص إسرائيل ،التي كانت لها مصالح واسعة مع حكومة الشاه لسنوات طويلة ، وأن تقديم السلاح لإيران يحقق هدفين للسياسة الإسرائيلية الإستراتيجية . الهدف الأول يتمثل في استنزاف القدرات العسكرية العراقية ،التي تعتبرها إسرائيل خطر عليها ، والهدف الثاني هو تنشيط سوق السلاح الإسرائيلي .
لقد قام الكولونيل [ اولفر نورث ] مساعد مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي بترتيب التعاون العسكري الإسرائيلي الإيراني من وراء ظهر الكونجرس الذي كان قد اصدر قراراً يمنع بيع الأسلحة إلى إيران ،وجرى ترتيب ذلك عن طريق شراء الأسلحة إلى ثوار الكونترا في نكاراغوا ،حيث كان هناك قرارا بتزويد ثورة الردة في تلك البلاد ،وجرى شراء الأسلحة من إسرائيل ،وسجلت أثمانها بأعلى من الثمن الحقيقي ،لكي يذهب فرق السعر ثمناً للأسلحة المرسلة إلى إيران ،بالإضافة إلى ما تدفعه إيران من أموال لهذا الغرض .(3)
وقد أشار تقرير اللجنة الرئاسية كذلك ،إلى أن اجتماعاً كان قد جرى عقده بين الرئيس [ريكان ] ومستشاره للأمن القومي [ مكفرن ] عندما كان ريكان راقداً في المستشفى لإجراء عملية جراحية لإزالة ورم سرطاني في أمعائه ،وقد طلب مستشاره الموافقة على فتح خط اتصال مع إيران ،وقد أجابه الرئيس ريكان على الفور : [أذهب وافتحه ].
وبدأ الاتصال المباشر مع إيران ،وسافر [ أولفر نورث ] بنفسه إلى إيران في زيارة سرية لم يعلن عنها ،وبدأت الأسلحة الأمريكية تنهال على إيران ،لا حباً بإيران ونظامها الإسلامي ،وإنما لجعل تلك الحرب المجرمة تستمر أطول مدة ممكنة (4)
ولم يقتصر تدفق الأسلحة لإيران ،على إسرائيل والولايات المتحدة فقط ،وإنما تعدتها إلى جهات أخرى عديدة ،ولعب تجار الأسلحة الدوليون دوراً كبيراً في هذا الاتجاه
ثالثاً : إسرائيل تضرب المفاعل النووي العراقي :
انتهزت إسرائيل فرصة قيام الحرب العراقية الإيرانية ،لتقوم بضرب المفاعل الذري العراقي عام 1981،فقد كانت إسرائيل تراقب عن كثب سعي النظام الصدامي لبناء برنامجه النووي ،حيث قامت فرنسا بتزويد العراق بمفاعل ذري تم إنشاءه في الزعفرانية ،إحدى ضواحي بغداد ،وكانت إسرائيل ،عبر جواسيسها تتتبّع التقدم العراقي في هذا المجال باستمرار .
وعندما قامت الحرب العراقية الإيرانية وجدت إسرائيل الفرصة الذهبية لمهاجمة المفاعل
،مستغلة قيام الطائرات الإيرانية شن غاراتها الجوية على بغداد ،وانغمار العراق في تلك الحرب مما يجعل من العسير عليه فتح جبهة ثانية ضد إسرائيل آنذاك .
وهكذا هاجم سرب من الطائرات الإسرائيلية يتألف من 18 طائرة المفاعل النووي العراقي في كانون الثاني 1981،وضربه بالقنابل الضخمة ،وقيل حينذاك أن عدد من الخبراء الفرنسيين العاملين في المفاعل قد قدموا معلومات واسعة ودقيقة عن المفاعل ،مما سهل للإسرائيليين إحكام ضربتهم له ،وهكذا تم تدمير المفاعل . إلا أن العراق استطاع إنقاذ ما مقداره [12,3 كغم ]من اليورانيوم المخصب بنسبة 93% وهي كمية كافية لصنع قنبلة نووية . (5)
لم يستطع حكام العراق القيام بأي رد فعل تجاه الضربة الإسرائيلية ،واكتفوا بالتوعد بالانتقام من إسرائيل ،فلم يدر في خلدهم أن الحرب سوف تطول لمدة ثمان سنوات ، ويُغرق صدام حسين شعبه وبلاده في تلك الحرب المدمرة ،حيث دفع الشعب العراقي ثمناً باهضاً من أرواح بنيه وثروات بلاده ،وأثقلته بالديون .
رابعاً : إيران تستعيد قدراتها ،وتشن الهجوم المعاكس :
في أواسط عام 1982 ، استطاع النظام الإيراني احتواء هجوم الجيش العراقي ، وتوغله في عمق الأراضي الإيرانية ،وإعداد العدة للقيام بالهجوم المعاكس لطرد القوات العراقية من أراضيه بعد أن تدفقت الأسلحة على إيران ،وقامت الحكومة الإيرانية بتعبئة الشعب الإيراني ،ودفعه للمساهمة في الحرب .
لقد بدأت أعداد كبيرة من الإيرانيين بالتطوع في قوات الحرس الثوري ،مدفوعين بدعاوى دينية استشهادية ،وتدفق الآلاف المؤلفة منهم إلى جبهات القتال ،وقد عصبوا رؤوسهم بالعصابة الخضراء ،ولبس قسم منهم الأكفان وهم يتقدمون الصفوف .
وفي تلك الأيام من أواسط عام 1982 ، شنت القوات الإيرانية هجوماً واسعاً على القوات العراقية ،التي عبرت نهر الطاهري متوغلة في العمق الإيراني ،واستطاع الجيش الإيراني ،والحرس الثوري من تطويق القوات العراقية ،وخاض ضدها معارك شرسة ذهب ضحيتها الآلاف من خيرة أبناء الشعب العراقي الذين ساقهم الجلاد صدام حسين إلى ساحات القتال ، وانتهت تلك المعارك باستسلام بقية القوات العراقية بكامل أسلحتها للقوات الإيرانية .
واستمر اندفاع القوات الإيرانية عبر نهر الطاهري ،وأخذت تطارد بقايا القوات العراقية التي كانت قد احتلت مدينة [ خرم شهر ] وطوقت مدينة عبدان النفطية المشهورة ،واشتدت المعارك بين الطرفين ،واستطاعت القوات الإيرانية في النهاية من طرد القوات العراقية من منطقة [ خوزستان ] في تموز من عام 1982 ،بعد أن فقد الجيش العراقي أعداداً كبيرة من القتلى ،وتم أسر أكثر من عشرين ألف ضابط وجندي من القوات العراقية ،وغرق أعداد كبيرة أخرى في مياه شط العرب عند محاولتهم الهرب من جحيم المعارك سباحة لعبور شط العرب،وكانت جثثهم تطفوا فوق مياه الشط .
أحدث الهجوم الإيراني هزة كبرى للنظام العراقي وآماله ،وأحلامه في السيطرة على منطقة خوزستان الغنية بالبترول ،وكان حكام العراق قد ساوموا حكام إيران عليها بموجب شروط المنتصر في الحرب ،إلا أن حكام إيران رفضوا شروط العراق ،وأصروا على مواصلة الحرب ،وطرد القوات العراقية بالقوة من أراضيهم .
وبعد ذلك الهجوم الذي أنتهي بهزيمة العراق في منطقة خوزستان ،حاول النظام العراقي التوصل مع حكام إيران إلى وقف الحرب ،وإجراء مفاوضات بين الطرفين ، بعد أن وجد نفسه في ورطة لا يدري كيف يخرج منها ،مستغلاً قيام القوات الإسرائيلية في صيف ذلك العام 1982 باجتياح لبنان، واحتلالها للعاصمة بيروت ،وفرضها زعيم القوات الكتائبية [ بشير الجميل ] رئيساً للبلاد ،تحت تهديد الدبابات التي أحاطت بالبرلمان اللبناني ،لكي يتسنى للعراق تقديم الدعم للشعب اللبناني حسب ادعائه ،مبدياً استعداده للانسحاب من جميع الأراضي الإيرانية المحتلة ،إلا أن حكام إيران ،وعلى رأسهم [الإمام الخميني ]رفضوا العرض العراقي ،وأصروا على مواصلة الحرب ،وطلبوا من حكام العراق السماح للقوات الإيرانية المرور عبر الأراضي العراقية للتوجه إلى لبنان ، لتقديم الدعم للشعب اللبناني وقد رفض حكام العراق الطلب الإيراني كذلك .
وحاول حكام العراق ،بكل الوسائل والسبل وقف الحرب ،ووسطوا العديد من الدول ،والمنظمات ،كمنظمة الأمم المتحدة ،والجامعة العربية ،ومنظمة المؤتمر الإسلامي ،ولكن كل محاولاتهم ذهبت أدراج الرياح ،فقد كان الإمبرياليون يسعون بكل الوسائل والسبل إلى استمرار الحرب ،وإفشال أي محاولة للتوسط في النزاع ، فقد قتل وزير خارجية الجزائر عندما كان في طريقه إلى إيران ،في محاولة للتوسط بين الطرفين المتحاربين ،حيث أُسقطت طائرته ولف الحادث الصمت المطبق ،وبقي سراً من الأسرار .
كما اغتيل رئيس وزراء السويد [ أولف بالمه ] الذي بذل جهوداً كبيرة من أحل وقف القتال ،في أحد شوارع العاصمة السويدية ،وبقي مقتله سراً من الأسرار كذلك ، وقيل أن توسطه بين الأطراف المتحاربة لوقف القتال كان أحد أهم أسباب اغتياله ، هذا بالإضافة إلى موقفه النبيل من قضايا التسلح النووي ،والحرب الفيتنامية التي عارضها بشدة .
لقد كان إصرار حكام إيران على استمرار الحرب ،من اعظم الأخطاء التي وقعوا فيها ، ولا يمكن تبرير موقفهم ذاك بأي حال من الأحوال ،فقد أدى استمرار الحرب حتى الأشهر الأخيرة من عام 1988 ،إلى إزهاق أرواح مئات الألوف من أبناء الشعبين ، العراقي والإيراني ،وبُددت ثروات البلدين ،وانهار اقتصادهما ،وتراكمت عليهما الديون ،وأُجبر حكام إيران على شراء الأسلحة من عدويهما إسرائيل وأمريكا ،كما كانت شعاراتهم تقول .ولا أحد يعتقد أن الإمام الخميني وحكام إيران لم يكونو عارفين أن تلك الحرب كانت حرب أمريكية ،وتصب في خانة الولايات المتحدة وإسرائيل الإستراتيجية في المنطقة ،وكان خير دليل على ذلك قيام الولايات المتحدة وحلفائها بتزويد الطرفين بالأسلحة ،والمعدات وقطع الغيار ،والمعلومات التي كانت تنقلها الأقمار الصناعية ،التجسسية الأمريكية لكلا الطرفين ،من أجل إطالة أمد الحرب ،وعليه كان الإصرار على استمرار الحرب جريمة كبرى بحق الشعبين والبلدين الجارين المسلمين ،بصرف النظر عن طبيعة النظام العراقي وقيادته الفاشية المجرمة والمتمثلة بصدام حسين وزمرته ،والتي كانت تدفع أبناء الشعب العراقي إلى ساحات الموت دفعاً ،وحيث كانت فرق الإعدام تلاحق الهاربين من الحرب ،أو المتراجعين أمام ضغط القوات الإيرانية في ساحات القتال .
لقد كان أحرى بالنظام الإيراني وبالإمام الخميني إيقاف القتال ،وحقن الدماء ، والعمل بقوله تعالى : [ وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله ] وقوله تعالى في آية أخرى : [ يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان أنه لكم عدو مبين ] ،كما جاء في آية ثالثة قوله تعالى : [ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ، فاصلحوا بينهم ]( صدق الله العظيم)تلك هي آيات من القرآن الكريم ، وهي تحث على السلام ،وحل المشاكل بالحسنى والعدل ،وربما يحاجج النظام الإيراني بأن صدام حسين لا يمكن أن يعتبر مؤمناً ،وبالتالي لا يمكن أن تنطبق عليه هذه الآيات الكريمة ،وهنا أعود فأقول أن الذين كانوا يقاتلون في تلك الحرب ، ليسو صدام حسين وزمرته ،وإنما الناس الأبرياء من أبناء الشعب والذين ساقهم صدام للحرب عنوة ، فهل يُعتبر الشعب العراقي كله في نظر حكام إيران غير مؤمنين ؟
ومن جهة أخرى كان النظام الإيراني قد أدرك أن الإمبرياليين يساعدون الطرفين ، ويمدونهم بالسلاح والمعلومات العسكرية ،أفلا يكون هذا خير دليل على أن تلك الحرب هي حرب أمريكية ،استهدفت البلدين والشعبين والجيشين ،من أجل حماية مصالح الإمبرياليين في الخليج ،وضمان تدفق النفط إليهم دون تهديد أو مخاطر ، وبالسعر الذي يحددونه هم ؟ ثم ألا يعني استمرار تلك الحرب ،خدمة كبرى للإمبرياليين،وكارثة مفجعة لشعبي البلدين وللعلاقات التاريخية وحسن الجوار بينهما ؟
لقد أعترف صدام حسين عام 1990 ،بعد إقدامه على غزو الكويت،في رسالة إلى الرئيس الإيراني [ هاشمي رفسنجاني ] ،أن تلك الحرب كان وراءها قوى أجنبية ، حيث ورد في نص الرسالة ما يلي : [إن هناك قوى كانت لها يد في الفتنة ] .
ولكن صدام حسين لم يقل الحقيقة كاملة ،وبشكل دقيق ،لأن الحقيقة تقول أن صدام حسين ، أشعل الحرب بأمر ، أو تحريض أمريكي ،وظن صدام أن بإمكانه تحقيق طموحاته في التوسع والسيطرة ،ولعب دور شرطي الخليج ،بعد أن كانت إيران ،على عهد الشاه ،تقوم بهذا الدور، ويصبح للعراق منفذاً على الخليج .
لقد أراد صدام حسين أن يزاوج مصالح الإمبريالية بأطماعه التوسعية ،ولكن حسابات البيدر كانت غير حسابات الحقل ،كما يقول المثل ،ودفع العراق ثمناً غالياً من دماء أبنائه ،وبدد صدام حسين ثروات البلاد ، واغرق العراق بالديون ،ودمر اقتصاده ، ولم يستفد من تلك الحرب سوى الولايات المتحدة وإسرائيل وحلفائهم ، وليذهب إلى الجحيم شعبا البلدين المظلومين من قبل حكامهما ،ومن قبل الإمبرياليين أساس البلاء.
ربما فكر الإمام الخميني بأن استمرار الحرب يمكن أن يحقق له أهدافاً في العراق ، كقيام ثورة [ شيعية ] تسقط النظام الصدامي ،لكن هذا الحلم كان غير ممكن التحقيق ،لسبب بسيط ،وهو أن الإمبريالية لا يمكن أن تسمح بقيام نظام ثانٍ في العراق على غرار النظام الإيراني ،ولا حتى تسمح بأن يسيطر صدام حسين على إيران ليشكل ذلك أكبر خطر على مصالحهم في المنطقة ،وتسمح لأحد المنتصرين الجلوس على نصف نفط الخليج ،وليس أدل على ذلك من إعلان الرئيس الأمريكي جيمي كارتر في خطابه أمام الكونجرس الأمريكي ، في 23 كانون الثاني من عام 1980 والذي جاء فيه ما يلي :
{ إن أي محاولة من جانب أي قوى للحصول على مركز مسيطر في منطقة الخليج ، سوف يعتبر في نظر الولايات المتحدة الأمريكية كهجوم على المصالح الحيوية بالنسبة لها ،وسوف يتم رده بكل الوسائل ، بما فيها القوة العسكرية } .(6)
هذه هي حقائق الوضع في منطقة الخليج ،والتي جهلها أو تجاهلها حكام البلدين ، ليغرقوا بلديهما وشعبيهما في ويلات أطول حرب في القرن العشرين .
خامساً : استمرار الحرب ،وإيران تستكمل تحرير أراضيها :
اشتدت الحرب ضراوة ما بين الأعوام 1983 ـ 1986 ،حيث أخذت إيران زمام المبادرة من العراقيين ،واستطاعت بعد إكمال تحرير إقليم خوزستان ،أن تركز جهدها الحربي نحو القاطع الأوسط من ساحة الحرب ،وشنت هجوماً واسعا على القوات العراقية ،مسددة له ضربات متواصلة ،استطاعت من خلالها تحرير مدن [ قصر شيرين] و [ سربيل زهاب ] و [ الشوش ]،وتمكنت من طرد القوات العراقية من كافة الأراضي الإيرانية ،ومنزلة بها خسائر جسيمة بالأرواح ،والمعدات ،وتم أسر الآلاف من جنوده وضباطه ،والاستيلاء على معدات وأسلحة ودبابات بأعداد كبيرة ، هذا بالإضافة إلى آلاف القتلى الذين تركوا في ساحات المعارك ،ولم يكن بالإمكان نقلهم جميعاً إلى داخل الحدود العراقية ،ومع ذلك فقد كانت سيارات النقل كل يوم تنقل أعداد كبيرة من ضحايا تلك الحرب المجرمة ،وكان الشعب العراقي يتحرق ألماً ، وغضباً على النظام الصدامي الذي ورط العراق بتلك الحرب ،وقمع أي معارضة لها بأقسى وسائل العنف ،فقد كان مصير كل من ينتقد الحرب ،الموت الزؤام، ومن الأمثلة على جرائم صدام حسين ، أنه عقد في تلك الأيام اجتماعاً مشتركاً لمجلس الوزراء والقيادة القطرية ،لبحث مسألة الحرب ،ووسائل وقفها ،وكان حكام إيران آنذاك يصرون على عدم التفاوض مع صدام حسين ووقف الحرب ،أراد صدام أن يقف على أراء الحاضرين في الاجتماع ،حيث سألهم قائلا ً: [ما هو رأيكم في أن أتخلى عن السلطة لكي نوقف الحرب؟]
وكان جواب وزير الصحة [رياض إبراهيم ] والذي جاء بشكل عفوي قائلاً :
[ سيادة الرئيس ،إذا كان باستقالتكم يمكن أن يتوقف نزيف الحرب ،فلا بأس في ذلك]. فما كان من صدام حسين إلا أن سحب مسدسه وأطلق على رأسه الرصاص وأرداه قتيلاً في الحال . هذا هو مصير كل من يعارض ،أو حتى يقترح ما لا يوافق عليه صدام .
لقد حاول صدام امتصاص غضب الشعب واستياءه من الحرب وكثرة الضحايا برشوة ذويهم ، وذلك بتقديم سيارة ومبلغ من المال ،أو قطعة أرض او شقة أو دار ، وكانت الحكومة السعودية ، وحكام دول الخليج الأخرى تدفع الأموال الطائلة لتمكن صدام حسين من دفع تلك الرشاوى ،ولشراء الأسلحة والمعدات للجيش العراقي ،بعد أن أستنفذ دكتاتور العراق كامل احتياطات البلاد من العملات النادرة البالغة 36 ملياراً من الدولارات والذهب ،واستنفذ كل موارد العراق النفطية والبالغة 25 مليار دولار سنوياً ،هذا بالإضافة إلى إغراق العراق بالديون ،والتي جاوزت حدود أل 60 مليار دولار .
لقد كان من الممكن أن يكون العراق اليوم في مصاف الدول المتقدمة في تطوره ، ومستوى معيشة شعبه ،نظراً لما يتمتع به العراق من ثروات نفطية ومعدنية ،وأراضي زراعية خصبة ،ومياه وفيرة ،ولكن الجلاد آثر أن يسوق الشعب العراقي نحو الجوع والفقر ،والوطن نحو الدمار والخراب
ثانياً : إيران تبحث عن السلاح .
ثالثاً : إسرائيل تضرب المفاعل النووي العراقي .
رابعاً : إيران تستعيد قدراتها ،وتشن الهجوم المعاكس .
خامساً : استمرار الحرب ،وإيران تستكمل تحرير أراضيها .
سادساً : تحول ميزان القوى لصالح إيران ،واحتلال الفاو ،وجزر مجنون .
سابعاً : النظام العراقي يسعى للتسلح بأسلحة الدمار الشامل .
ثامناً : حرب الناقلات ،وتأثيرها على إمدادات النفط .
تاسعاً : معارك العام الأخير للحرب .
عاشراً : النظام الصدامي يهاجم مدينة حلبجة بالأسلحة الكيماوية .
أحد عشر: النظام العراقي يكثف حرب الصواريخ ،لتركيع إيران ،ونهاية الحرب.
اثنا عشر : النظام الصدامي يهاجم الشعب الكردي [ حملة الأنفال ] .
أولاً:بداية الحرب ،وتوغل القوات العراقية في العمق الإيراني:
في صباح الثاني والعشرين من أيلول 1980 ،قامت على حين غرة 154 طائرة حربية عراقية بهجوم جوي كاسح على مطارات إيران ،والمراكز الحيوية فيها ،ثم أعقبتها 100 طائرة أخرى في ضربة ثانية لإكمال ضرب المطارات والطائرات الحربية الإيرانية ،وكانت الطائرات تغير موجة إثر موجة ،وفي الوقت نفسه زحفت الدبابات والمدرعات العراقية نحو الحدود الإيرانية على جبهتين.
1 ـ الجبهة الأولى في المنطقة الوسطى من الحدود بين البلدين ،باتجاه [ قصر شيرين ] ، نظراً لقرب هذه المنطقة من قلب العراق ،لإبعاد أي خطر محتمل لتقدم القوات الإيرانية نحو ديالى ،ثم بغداد ،وقد استطاعت القوات العراقية الغازية احتلال[ قصر شيرين ].
2 ـ الجبهة الثانية في الجنوب ،نحو منطقة [ خوزستان ] الغنية بالنفط ،وذات الأهمية الإستراتيجية الكبرى ،حيث تطل على أعلى الخليج .
وفي خلال بضعة أسابيع من الهجوم المتواصل ،استطاعت القوات العراقية ،التي كانت قد استعدت للحرب ،من السيطرة على منطقة [ خوزستان ] بكاملها ،واحتلت مدينة [ خرم شهر ] ،وقامت بالتفاف حول مدينة [ عبدان ] النفطية ،وطوقتها .
وعلى الجانب الإيراني ،فقد قامت الطائرات الإيرانية بالرد على الهجمات العراقية ، وقصفت العاصمة بغداد ، وعدد من المدن الأخرى ، الا أن تأثير القوة الجوية الإيرانية لم يكن على درجة من الفعالية ،وخصوصاً وأن النظام العراقي كان قد تهيأ للحرب قبل نشوبها ، حيث تم نصب المضادات الأرضية فوق أسطح العمارات في كل أنحاء العاصمة والمدن الأخرى ،وتم كذلك نصب العديد من بطاريات الصواريخ المضادة للطائرات حول بغداد . وهكذا فقد فقدت إيران أعداد كبيرة من طائراتها خلال هجومها المعاكس على العراق ،كما أن القوة الجوية الإيرانية كانت قد فقدت الكثير من كوادرها العسكرية المدربة بعد قيام الثورة ،مما اضعف قدرات سلاحها الجوي ، ولم يمضِ وقت طويل حتى أصبح للسلاح الجوي العراقي السيطرة المطلقة في سماء البلدين .
وفي الوقت الذي كانت إيران محاصرة من قبل الغرب ،فيما يخص تجهيزها بالأسلحة ، كانت الأسلحة تنهال على العراق من كل جانب ، كما أوعزت الولايات المتحدة إلى الرئيس المصري أنور السادات ببيع جميع الأسلحة المصرية من صنع سوفيتي إلى العراق ،وتم فتح قناة الاتصال بين البلدين عن طريق سلطنة عمان ،حيث كانت العلاقات بين البلدين مقطوعة منذُ أن ذهب السادات إلى إسرائيل .وقام السادات بالدور الموكول له ،وأخذت الأسلحة المصرية تُنقل إلى العراق عن طريق الأردن والسعودية خلال عام 1981 . كما بدأت خطوط الإنتاج في المصانع الحربية المصرية تنتج وتصدر للعراق المعدات والذخيرة ،والمدافع عيار 122ملم طيلة سنوات الحرب .
لقد كانت تلك العملية فرصة كبيرة للولايات المتحدة لإنعاش سوق السلاح الأمريكي ،حيث سعت لأن تتخلص مصر من السلاح السوفيتي ،وتستعيض عنه بالسلاح الأمريكي ،فقد بلغ قيمة ما باعه السادات من سلاح للعراق يتجاوز ألف مليون دولار خلال عام واحد ،وكانت أسعار الأسلحة المباعة تتجاوز أحياناً أسعارها الحقيقية ،وكان صدام حسين مرغماً على قبولها .(1)
وفي الوقت نفسه أشترى السادات من الأسلحة الأمريكية ،ما معدله [ ألف مليون دولار ] سنوياً ، ولمدة خمس سنوات ، التي تلت توقيعه على اتفاقية [ كامب ديفيد ] ،وبلغ قيمة ما اشترته مصر من الأسلحة الأمريكية ،أكثر مما اشترته من الاتحاد السوفيتي خلال السنين السابقة ،بعشرة أضعاف .
وفي حين لم تدفع مصر أكثر من ثلث ثمن الأسلحة السوفيتية ،فإنها دفعت ،ومع الفوائد ثمن كل السلاح الأمريكي ،ولم تعفى إلا بمقدار 7 مليارات دولار ،وكانت كرشوة من قبل الولايات المتحدة لمصر ، لقاء مشاركتها في الحرب ضد العراق في حرب الخليج الثانية عام 1991 ، وتقديراً لخدماتها في تحقيق الغطاء العربي لتلك الحرب الإمبريالية ضد العراق وشعبه ،بحجة تحرير الكويت ،ولقاء السكوت على حرب التجويع المستمرة منذُ 2 آب 1990،وحتى يومنا هذا، ضد الشعب العراقي المنكوب .
أما الاتحاد السوفيتي ، فقد بدأ بتوريد الأسلحة إلى العراق ،بعد توقف لفترة من الزمن ، وبدأت الأسلحة تنهال عليه عام 1981 ،حيث وصل إلى العراق 400 دبابة طراز T55 و250 دبابة طراز T 72)) كما تم عقد صفقة أخرى تناولت طائرات [ميك ] [وسوخوي ] و [ توبوليف ] ،بالإضافة إلى الصواريخ .
كما عقد حكام العراق صفقة أخرى مع البرازيل ،بمليارات الدولارات ،لشراء الدبابات ،والمدرعات ،وأسلحة أخرى ،وجرى ذلك العقد بضمانة سعودية ، واستمرت العلاقات التسليحية مع البرازيل حتى نهاية الحرب عام 1988.
وهكذا أستمر تفوق الجيش العراقي خلال العام 1981 ،حيث تمكن من احتلال مناطق واسعة من القاطع الأوسط منها [سربيل زهاب ]و[الشوش]و[قصر شيرين] وغيرها من المناطق الأخرى .
كما تقدمت القوات العراقية في القاطع الجنوبي ،في العمق الإيراني ،عابرة نهر الطاهري ،وكان ذلك الاندفاع أكبر خطأ أرتكبه الجيش العراقي ،بأمر من صدام حسين !!!، حيث أصبح في وضع يمكن القوات الإيرانية من الالتفاف حوله ،وتطويقه ،رغم معارضة القادة العسكريين لتلك الخطوة الانتحارية التي دفع الجيش العراقي لها ثمناً باهضاً من أرواح جنوده ،ومن الأسلحة والمعدات التي تركها الجيش ،بعد عملية التطويق الإيرانية ،والهجوم المعاكس الذي شنه الجيش الإيراني في تموز من عام 1982 ، والذي استطاع من خلاله إلحاق هزيمة منكرة بالجيش العراقي ،واستطاع تحرير أراضيه ومدنه في منطقة خوزستان ،وطرد القوات العراقية خارج الحدود .
ثانياً : إيران تبحث عن السلاح :
أحدث تقدم الجيش العراقي في العمق الإيراني قلقاً كبيراً لدى القيادة الإيرانية ،التي بدأت تعد العدة لتعبئة الجيش بكل ما تستطيع من الأسلحة والمعدات ،وقامت عناصر من الحكومة الإيرانية بالبحث عن مصادر للسلاح ،حيث كان السلاح الإيراني كله أمريكياً ،وكانت الولايات المتحدة قد أوقفت توريد الأسلحة إلى إيران منذُ الإطاحة بالشاه ،وقيام الحرس الثوري الإيراني باحتلال السفارة الأمريكية واحتجاز أعضائها كرهائن ،وتمكنت تلك العناصر ،عن طريق بعض الوسطاء من تجار الأسلحة ،من الاتصال بإسرائيل ، عن طريق أثنين من مساعدي رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك ، وهما [ أودولف سكويمر ] و [ يلكوف نامرودي ]، بالاشتراك مع تاجر الأسلحة السعودي [ عدنان خاشقجي ] الذي قام بدور الوسيط ؟ (2)
وجدت إسرائيل ضالتها في تقديم الأسلحة إلى إيران،ذلك لأن العراق تعتبره إسرائيل عدواً لها ،وإن إضعافه ،وإنهاك جيشه في حربه مع إيران يحقق أهداف إسرائيل .
ولم يكن تصرف إسرائيل هذا ،بمعزل عن الولايات المتحدة ورضاها ومباركتها إن لم تكن هي المرتبة لتلك الصفقات ،بعد أن وجدت الولايات المتحدة أن الوضع العسكري في جبهات القتال قد أصبح لصالح العراق ،ورغبة منها في إطالة أمد الحرب أطول مدة ممكنة فقد أصبح من الضروري إمداد إيران بالسلاح لمقاومة التوغل العراقي في عمق الأراضي الإيرانية ،وخلق نوع من توازن القوى بين الطرفين .
وفي آذار من عام 1981 أسقطت قوات الدفاع الجوي السوفيتية طائرة نقل دخلت المجال الجوي السوفيتي قرب الحدود التركية ،وتبين بعد سقوطها أنها كانت تحمل أسلحة ومعدات إسرائيلية إلى إيران . وعلى الأثر تم عزل وزير الدفاع الإيراني [ عمر فاخوري ] ،بعد أن شاع خبر الأسلحة الإسرائيلية في أرجاء العالم .
إلا أن ذلك الإجراء لم يكن سوى تغطية للفضيحة ،وظهر أن وراء تلك الحرب مصالح دولية كبرى تريد إدامة الحرب ،وإذكاء لهيبها ،وبالفعل تكشفت بعد ذلك في عام 1986 ،فضيحة أخرى هي ما سمي [ إيران ـ كونترا ]على عهد الرئيس الأمريكي [ رونالد ريكان ] الذي أضطر إلى تشكيل لجنة تحقيقية برئاسة السناتور [جون تاور ] وعضوية السناتور [ ادموند موسكي ] ومستشار للأمن القومي [برنت سكوكروفت ] ، وذلك في 26 شباط 19987 ،وقد تبين من ذلك التحقيق أن مجلس الأمن القومي الأمريكي كان قد عقد اجتماعاً عام 1983 ،برئاسة ريكان نفسه لبحث السياسة الأمريكية تجاه إيران ،وموضوع الحرب العراقية الإيرانية ،وقد وجد مجلس الأمن القومي الأمريكي أن استمرار لهيب الحرب يتطلب تزويد إيران بالسلاح وقطع الغيار والمعدات ، من قبل الولايات المتحدة وشركائها ،وبشكل خاص إسرائيل ،التي كانت لها مصالح واسعة مع حكومة الشاه لسنوات طويلة ، وأن تقديم السلاح لإيران يحقق هدفين للسياسة الإسرائيلية الإستراتيجية . الهدف الأول يتمثل في استنزاف القدرات العسكرية العراقية ،التي تعتبرها إسرائيل خطر عليها ، والهدف الثاني هو تنشيط سوق السلاح الإسرائيلي .
لقد قام الكولونيل [ اولفر نورث ] مساعد مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي بترتيب التعاون العسكري الإسرائيلي الإيراني من وراء ظهر الكونجرس الذي كان قد اصدر قراراً يمنع بيع الأسلحة إلى إيران ،وجرى ترتيب ذلك عن طريق شراء الأسلحة إلى ثوار الكونترا في نكاراغوا ،حيث كان هناك قرارا بتزويد ثورة الردة في تلك البلاد ،وجرى شراء الأسلحة من إسرائيل ،وسجلت أثمانها بأعلى من الثمن الحقيقي ،لكي يذهب فرق السعر ثمناً للأسلحة المرسلة إلى إيران ،بالإضافة إلى ما تدفعه إيران من أموال لهذا الغرض .(3)
وقد أشار تقرير اللجنة الرئاسية كذلك ،إلى أن اجتماعاً كان قد جرى عقده بين الرئيس [ريكان ] ومستشاره للأمن القومي [ مكفرن ] عندما كان ريكان راقداً في المستشفى لإجراء عملية جراحية لإزالة ورم سرطاني في أمعائه ،وقد طلب مستشاره الموافقة على فتح خط اتصال مع إيران ،وقد أجابه الرئيس ريكان على الفور : [أذهب وافتحه ].
وبدأ الاتصال المباشر مع إيران ،وسافر [ أولفر نورث ] بنفسه إلى إيران في زيارة سرية لم يعلن عنها ،وبدأت الأسلحة الأمريكية تنهال على إيران ،لا حباً بإيران ونظامها الإسلامي ،وإنما لجعل تلك الحرب المجرمة تستمر أطول مدة ممكنة (4)
ولم يقتصر تدفق الأسلحة لإيران ،على إسرائيل والولايات المتحدة فقط ،وإنما تعدتها إلى جهات أخرى عديدة ،ولعب تجار الأسلحة الدوليون دوراً كبيراً في هذا الاتجاه
ثالثاً : إسرائيل تضرب المفاعل النووي العراقي :
انتهزت إسرائيل فرصة قيام الحرب العراقية الإيرانية ،لتقوم بضرب المفاعل الذري العراقي عام 1981،فقد كانت إسرائيل تراقب عن كثب سعي النظام الصدامي لبناء برنامجه النووي ،حيث قامت فرنسا بتزويد العراق بمفاعل ذري تم إنشاءه في الزعفرانية ،إحدى ضواحي بغداد ،وكانت إسرائيل ،عبر جواسيسها تتتبّع التقدم العراقي في هذا المجال باستمرار .
وعندما قامت الحرب العراقية الإيرانية وجدت إسرائيل الفرصة الذهبية لمهاجمة المفاعل
،مستغلة قيام الطائرات الإيرانية شن غاراتها الجوية على بغداد ،وانغمار العراق في تلك الحرب مما يجعل من العسير عليه فتح جبهة ثانية ضد إسرائيل آنذاك .
وهكذا هاجم سرب من الطائرات الإسرائيلية يتألف من 18 طائرة المفاعل النووي العراقي في كانون الثاني 1981،وضربه بالقنابل الضخمة ،وقيل حينذاك أن عدد من الخبراء الفرنسيين العاملين في المفاعل قد قدموا معلومات واسعة ودقيقة عن المفاعل ،مما سهل للإسرائيليين إحكام ضربتهم له ،وهكذا تم تدمير المفاعل . إلا أن العراق استطاع إنقاذ ما مقداره [12,3 كغم ]من اليورانيوم المخصب بنسبة 93% وهي كمية كافية لصنع قنبلة نووية . (5)
لم يستطع حكام العراق القيام بأي رد فعل تجاه الضربة الإسرائيلية ،واكتفوا بالتوعد بالانتقام من إسرائيل ،فلم يدر في خلدهم أن الحرب سوف تطول لمدة ثمان سنوات ، ويُغرق صدام حسين شعبه وبلاده في تلك الحرب المدمرة ،حيث دفع الشعب العراقي ثمناً باهضاً من أرواح بنيه وثروات بلاده ،وأثقلته بالديون .
رابعاً : إيران تستعيد قدراتها ،وتشن الهجوم المعاكس :
في أواسط عام 1982 ، استطاع النظام الإيراني احتواء هجوم الجيش العراقي ، وتوغله في عمق الأراضي الإيرانية ،وإعداد العدة للقيام بالهجوم المعاكس لطرد القوات العراقية من أراضيه بعد أن تدفقت الأسلحة على إيران ،وقامت الحكومة الإيرانية بتعبئة الشعب الإيراني ،ودفعه للمساهمة في الحرب .
لقد بدأت أعداد كبيرة من الإيرانيين بالتطوع في قوات الحرس الثوري ،مدفوعين بدعاوى دينية استشهادية ،وتدفق الآلاف المؤلفة منهم إلى جبهات القتال ،وقد عصبوا رؤوسهم بالعصابة الخضراء ،ولبس قسم منهم الأكفان وهم يتقدمون الصفوف .
وفي تلك الأيام من أواسط عام 1982 ، شنت القوات الإيرانية هجوماً واسعاً على القوات العراقية ،التي عبرت نهر الطاهري متوغلة في العمق الإيراني ،واستطاع الجيش الإيراني ،والحرس الثوري من تطويق القوات العراقية ،وخاض ضدها معارك شرسة ذهب ضحيتها الآلاف من خيرة أبناء الشعب العراقي الذين ساقهم الجلاد صدام حسين إلى ساحات القتال ، وانتهت تلك المعارك باستسلام بقية القوات العراقية بكامل أسلحتها للقوات الإيرانية .
واستمر اندفاع القوات الإيرانية عبر نهر الطاهري ،وأخذت تطارد بقايا القوات العراقية التي كانت قد احتلت مدينة [ خرم شهر ] وطوقت مدينة عبدان النفطية المشهورة ،واشتدت المعارك بين الطرفين ،واستطاعت القوات الإيرانية في النهاية من طرد القوات العراقية من منطقة [ خوزستان ] في تموز من عام 1982 ،بعد أن فقد الجيش العراقي أعداداً كبيرة من القتلى ،وتم أسر أكثر من عشرين ألف ضابط وجندي من القوات العراقية ،وغرق أعداد كبيرة أخرى في مياه شط العرب عند محاولتهم الهرب من جحيم المعارك سباحة لعبور شط العرب،وكانت جثثهم تطفوا فوق مياه الشط .
أحدث الهجوم الإيراني هزة كبرى للنظام العراقي وآماله ،وأحلامه في السيطرة على منطقة خوزستان الغنية بالبترول ،وكان حكام العراق قد ساوموا حكام إيران عليها بموجب شروط المنتصر في الحرب ،إلا أن حكام إيران رفضوا شروط العراق ،وأصروا على مواصلة الحرب ،وطرد القوات العراقية بالقوة من أراضيهم .
وبعد ذلك الهجوم الذي أنتهي بهزيمة العراق في منطقة خوزستان ،حاول النظام العراقي التوصل مع حكام إيران إلى وقف الحرب ،وإجراء مفاوضات بين الطرفين ، بعد أن وجد نفسه في ورطة لا يدري كيف يخرج منها ،مستغلاً قيام القوات الإسرائيلية في صيف ذلك العام 1982 باجتياح لبنان، واحتلالها للعاصمة بيروت ،وفرضها زعيم القوات الكتائبية [ بشير الجميل ] رئيساً للبلاد ،تحت تهديد الدبابات التي أحاطت بالبرلمان اللبناني ،لكي يتسنى للعراق تقديم الدعم للشعب اللبناني حسب ادعائه ،مبدياً استعداده للانسحاب من جميع الأراضي الإيرانية المحتلة ،إلا أن حكام إيران ،وعلى رأسهم [الإمام الخميني ]رفضوا العرض العراقي ،وأصروا على مواصلة الحرب ،وطلبوا من حكام العراق السماح للقوات الإيرانية المرور عبر الأراضي العراقية للتوجه إلى لبنان ، لتقديم الدعم للشعب اللبناني وقد رفض حكام العراق الطلب الإيراني كذلك .
وحاول حكام العراق ،بكل الوسائل والسبل وقف الحرب ،ووسطوا العديد من الدول ،والمنظمات ،كمنظمة الأمم المتحدة ،والجامعة العربية ،ومنظمة المؤتمر الإسلامي ،ولكن كل محاولاتهم ذهبت أدراج الرياح ،فقد كان الإمبرياليون يسعون بكل الوسائل والسبل إلى استمرار الحرب ،وإفشال أي محاولة للتوسط في النزاع ، فقد قتل وزير خارجية الجزائر عندما كان في طريقه إلى إيران ،في محاولة للتوسط بين الطرفين المتحاربين ،حيث أُسقطت طائرته ولف الحادث الصمت المطبق ،وبقي سراً من الأسرار .
كما اغتيل رئيس وزراء السويد [ أولف بالمه ] الذي بذل جهوداً كبيرة من أحل وقف القتال ،في أحد شوارع العاصمة السويدية ،وبقي مقتله سراً من الأسرار كذلك ، وقيل أن توسطه بين الأطراف المتحاربة لوقف القتال كان أحد أهم أسباب اغتياله ، هذا بالإضافة إلى موقفه النبيل من قضايا التسلح النووي ،والحرب الفيتنامية التي عارضها بشدة .
لقد كان إصرار حكام إيران على استمرار الحرب ،من اعظم الأخطاء التي وقعوا فيها ، ولا يمكن تبرير موقفهم ذاك بأي حال من الأحوال ،فقد أدى استمرار الحرب حتى الأشهر الأخيرة من عام 1988 ،إلى إزهاق أرواح مئات الألوف من أبناء الشعبين ، العراقي والإيراني ،وبُددت ثروات البلدين ،وانهار اقتصادهما ،وتراكمت عليهما الديون ،وأُجبر حكام إيران على شراء الأسلحة من عدويهما إسرائيل وأمريكا ،كما كانت شعاراتهم تقول .ولا أحد يعتقد أن الإمام الخميني وحكام إيران لم يكونو عارفين أن تلك الحرب كانت حرب أمريكية ،وتصب في خانة الولايات المتحدة وإسرائيل الإستراتيجية في المنطقة ،وكان خير دليل على ذلك قيام الولايات المتحدة وحلفائها بتزويد الطرفين بالأسلحة ،والمعدات وقطع الغيار ،والمعلومات التي كانت تنقلها الأقمار الصناعية ،التجسسية الأمريكية لكلا الطرفين ،من أجل إطالة أمد الحرب ،وعليه كان الإصرار على استمرار الحرب جريمة كبرى بحق الشعبين والبلدين الجارين المسلمين ،بصرف النظر عن طبيعة النظام العراقي وقيادته الفاشية المجرمة والمتمثلة بصدام حسين وزمرته ،والتي كانت تدفع أبناء الشعب العراقي إلى ساحات الموت دفعاً ،وحيث كانت فرق الإعدام تلاحق الهاربين من الحرب ،أو المتراجعين أمام ضغط القوات الإيرانية في ساحات القتال .
لقد كان أحرى بالنظام الإيراني وبالإمام الخميني إيقاف القتال ،وحقن الدماء ، والعمل بقوله تعالى : [ وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله ] وقوله تعالى في آية أخرى : [ يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان أنه لكم عدو مبين ] ،كما جاء في آية ثالثة قوله تعالى : [ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ، فاصلحوا بينهم ]( صدق الله العظيم)تلك هي آيات من القرآن الكريم ، وهي تحث على السلام ،وحل المشاكل بالحسنى والعدل ،وربما يحاجج النظام الإيراني بأن صدام حسين لا يمكن أن يعتبر مؤمناً ،وبالتالي لا يمكن أن تنطبق عليه هذه الآيات الكريمة ،وهنا أعود فأقول أن الذين كانوا يقاتلون في تلك الحرب ، ليسو صدام حسين وزمرته ،وإنما الناس الأبرياء من أبناء الشعب والذين ساقهم صدام للحرب عنوة ، فهل يُعتبر الشعب العراقي كله في نظر حكام إيران غير مؤمنين ؟
ومن جهة أخرى كان النظام الإيراني قد أدرك أن الإمبرياليين يساعدون الطرفين ، ويمدونهم بالسلاح والمعلومات العسكرية ،أفلا يكون هذا خير دليل على أن تلك الحرب هي حرب أمريكية ،استهدفت البلدين والشعبين والجيشين ،من أجل حماية مصالح الإمبرياليين في الخليج ،وضمان تدفق النفط إليهم دون تهديد أو مخاطر ، وبالسعر الذي يحددونه هم ؟ ثم ألا يعني استمرار تلك الحرب ،خدمة كبرى للإمبرياليين،وكارثة مفجعة لشعبي البلدين وللعلاقات التاريخية وحسن الجوار بينهما ؟
لقد أعترف صدام حسين عام 1990 ،بعد إقدامه على غزو الكويت،في رسالة إلى الرئيس الإيراني [ هاشمي رفسنجاني ] ،أن تلك الحرب كان وراءها قوى أجنبية ، حيث ورد في نص الرسالة ما يلي : [إن هناك قوى كانت لها يد في الفتنة ] .
ولكن صدام حسين لم يقل الحقيقة كاملة ،وبشكل دقيق ،لأن الحقيقة تقول أن صدام حسين ، أشعل الحرب بأمر ، أو تحريض أمريكي ،وظن صدام أن بإمكانه تحقيق طموحاته في التوسع والسيطرة ،ولعب دور شرطي الخليج ،بعد أن كانت إيران ،على عهد الشاه ،تقوم بهذا الدور، ويصبح للعراق منفذاً على الخليج .
لقد أراد صدام حسين أن يزاوج مصالح الإمبريالية بأطماعه التوسعية ،ولكن حسابات البيدر كانت غير حسابات الحقل ،كما يقول المثل ،ودفع العراق ثمناً غالياً من دماء أبنائه ،وبدد صدام حسين ثروات البلاد ، واغرق العراق بالديون ،ودمر اقتصاده ، ولم يستفد من تلك الحرب سوى الولايات المتحدة وإسرائيل وحلفائهم ، وليذهب إلى الجحيم شعبا البلدين المظلومين من قبل حكامهما ،ومن قبل الإمبرياليين أساس البلاء.
ربما فكر الإمام الخميني بأن استمرار الحرب يمكن أن يحقق له أهدافاً في العراق ، كقيام ثورة [ شيعية ] تسقط النظام الصدامي ،لكن هذا الحلم كان غير ممكن التحقيق ،لسبب بسيط ،وهو أن الإمبريالية لا يمكن أن تسمح بقيام نظام ثانٍ في العراق على غرار النظام الإيراني ،ولا حتى تسمح بأن يسيطر صدام حسين على إيران ليشكل ذلك أكبر خطر على مصالحهم في المنطقة ،وتسمح لأحد المنتصرين الجلوس على نصف نفط الخليج ،وليس أدل على ذلك من إعلان الرئيس الأمريكي جيمي كارتر في خطابه أمام الكونجرس الأمريكي ، في 23 كانون الثاني من عام 1980 والذي جاء فيه ما يلي :
{ إن أي محاولة من جانب أي قوى للحصول على مركز مسيطر في منطقة الخليج ، سوف يعتبر في نظر الولايات المتحدة الأمريكية كهجوم على المصالح الحيوية بالنسبة لها ،وسوف يتم رده بكل الوسائل ، بما فيها القوة العسكرية } .(6)
هذه هي حقائق الوضع في منطقة الخليج ،والتي جهلها أو تجاهلها حكام البلدين ، ليغرقوا بلديهما وشعبيهما في ويلات أطول حرب في القرن العشرين .
خامساً : استمرار الحرب ،وإيران تستكمل تحرير أراضيها :
اشتدت الحرب ضراوة ما بين الأعوام 1983 ـ 1986 ،حيث أخذت إيران زمام المبادرة من العراقيين ،واستطاعت بعد إكمال تحرير إقليم خوزستان ،أن تركز جهدها الحربي نحو القاطع الأوسط من ساحة الحرب ،وشنت هجوماً واسعا على القوات العراقية ،مسددة له ضربات متواصلة ،استطاعت من خلالها تحرير مدن [ قصر شيرين] و [ سربيل زهاب ] و [ الشوش ]،وتمكنت من طرد القوات العراقية من كافة الأراضي الإيرانية ،ومنزلة بها خسائر جسيمة بالأرواح ،والمعدات ،وتم أسر الآلاف من جنوده وضباطه ،والاستيلاء على معدات وأسلحة ودبابات بأعداد كبيرة ، هذا بالإضافة إلى آلاف القتلى الذين تركوا في ساحات المعارك ،ولم يكن بالإمكان نقلهم جميعاً إلى داخل الحدود العراقية ،ومع ذلك فقد كانت سيارات النقل كل يوم تنقل أعداد كبيرة من ضحايا تلك الحرب المجرمة ،وكان الشعب العراقي يتحرق ألماً ، وغضباً على النظام الصدامي الذي ورط العراق بتلك الحرب ،وقمع أي معارضة لها بأقسى وسائل العنف ،فقد كان مصير كل من ينتقد الحرب ،الموت الزؤام، ومن الأمثلة على جرائم صدام حسين ، أنه عقد في تلك الأيام اجتماعاً مشتركاً لمجلس الوزراء والقيادة القطرية ،لبحث مسألة الحرب ،ووسائل وقفها ،وكان حكام إيران آنذاك يصرون على عدم التفاوض مع صدام حسين ووقف الحرب ،أراد صدام أن يقف على أراء الحاضرين في الاجتماع ،حيث سألهم قائلا ً: [ما هو رأيكم في أن أتخلى عن السلطة لكي نوقف الحرب؟]
وكان جواب وزير الصحة [رياض إبراهيم ] والذي جاء بشكل عفوي قائلاً :
[ سيادة الرئيس ،إذا كان باستقالتكم يمكن أن يتوقف نزيف الحرب ،فلا بأس في ذلك]. فما كان من صدام حسين إلا أن سحب مسدسه وأطلق على رأسه الرصاص وأرداه قتيلاً في الحال . هذا هو مصير كل من يعارض ،أو حتى يقترح ما لا يوافق عليه صدام .
لقد حاول صدام امتصاص غضب الشعب واستياءه من الحرب وكثرة الضحايا برشوة ذويهم ، وذلك بتقديم سيارة ومبلغ من المال ،أو قطعة أرض او شقة أو دار ، وكانت الحكومة السعودية ، وحكام دول الخليج الأخرى تدفع الأموال الطائلة لتمكن صدام حسين من دفع تلك الرشاوى ،ولشراء الأسلحة والمعدات للجيش العراقي ،بعد أن أستنفذ دكتاتور العراق كامل احتياطات البلاد من العملات النادرة البالغة 36 ملياراً من الدولارات والذهب ،واستنفذ كل موارد العراق النفطية والبالغة 25 مليار دولار سنوياً ،هذا بالإضافة إلى إغراق العراق بالديون ،والتي جاوزت حدود أل 60 مليار دولار .
لقد كان من الممكن أن يكون العراق اليوم في مصاف الدول المتقدمة في تطوره ، ومستوى معيشة شعبه ،نظراً لما يتمتع به العراق من ثروات نفطية ومعدنية ،وأراضي زراعية خصبة ،ومياه وفيرة ،ولكن الجلاد آثر أن يسوق الشعب العراقي نحو الجوع والفقر ،والوطن نحو الدمار والخراب